ولا يقتصر تأثير هذه الحالة على الجانب الجسدي فحسب، بل يمتدّ ليشمل القدرة على العمل، والنوم، والحالة النفسية للمريض، مما يجعلها من أبرز أسباب الإعاقة وفقدان الإنتاجية عالميًا. واليوم، يشهد الطب تطورًا كبيرًا في التعامل مع هذه الحالة، من خلال العلاجات الدوائية المتقدمة، والعلاج الطبيعي، والتقنيات الحديثة مثل التردد الحراري والعلاج بالبلازما والليزر منخفض الطاقة.
ما المقصود بآلام الظهر المزمنة؟
إن فهم طبيعة الألم هو الخطوة الأولى نحو علاجه. تختلف آلام الظهر في شدتها ومدتها، ويحدد هذا الفارق مسار العلاج المناسب للحالة.
الفرق بين الألم الحاد والمزمن
يُقسَّم ألم الظهر إلى نوعين رئيسيين حسب مدّته وطبيعة تطوّره:
- الألم الحاد: يظهر بشكل مفاجئ نتيجة إجهاد عضلي، إصابة، أو حركة خاطئة، ويستمر عادةً من بضعة أيام إلى 6 أسابيع، ويزول مع الراحة والعلاج البسيط.
- الألم المزمن: هو الألم الذي يستمر أكثر من ثلاثة أشهر حتى بعد علاج السبب أو زوال الإصابة، وغالبًا ما يترافق مع تغيّرات في الإحساس العصبي، مما يجعل السيطرة عليه أصعب ويحتاج إلى مقاربة علاجية متعددة الجوانب تشمل الدواء، العلاج الطبيعي، والدعم النفسي.
أسباب آلام الظهر المزمنة
الأسباب العضلية والهيكلية
تُعدّ أكثر الأسباب شيوعًا لآلام الظهر المزمنة، وتشمل:
- الإجهاد العضلي المتكرر أو ضعف عضلات الظهر والبطن التي تدعم العمود الفقري.
- الانزلاق الغضروفي (Disc Herniation) الذي يضغط على الأعصاب المحيطة بالفقرات.
- التنكّس الفقري (Degenerative Disc Disease) الناتج عن التقدّم في العمر وفقدان مرونة الغضاريف.
- التهاب المفاصل الفقارية أو الفُصال العظمي (Osteoarthritis) الذي يسبب تآكل المفاصل بين الفقرات.
- الانحناءات غير الطبيعية للعمود الفقري مثل الجنف (Scoliosis) أو الحدب (Kyphosis).
هذه الحالات تؤدي غالبًا إلى ألم مزمن في أسفل الظهر، يزداد عند الوقوف أو الجلوس لفترات طويلة.

الأسباب العصبية
في بعض الحالات، يكون الألم ناتجًا عن خلل أو ضغط على الأعصاب الشوكية، وهو ما يُعرف بـ اعتلال الجذور العصبية (Radiculopathy).
قد ينتج هذا الضغط عن انزلاق غضروفي، أو تضيّق في القناة الفقرية (Spinal Stenosis)، أو حتى إصابات في الأعصاب الطرفية.
تتميّز هذه الحالات بامتداد الألم إلى الساقين أو الأرداف، مع خدر أو ضعف عضلي في بعض الأحيان، ويُعرف هذا النمط من الألم باسم عرق النسا (Sciatica).
الأسباب النفسية أو المهنية
تشير الدراسات الحديثة إلى أنّ العوامل النفسية والمهنية تلعب دورًا مهمًا في تطوّر الألم المزمن.
فالتوتر المستمر، القلق، الاكتئاب، أو قلة النوم يمكن أن تزيد من حساسية الجهاز العصبي للألم وتُضعف قدرة الجسم على التعافي.
كما أنّ الجلوس لفترات طويلة، أو العمل في وضعيات غير صحيّة، أو رفع الأوزان الثقيلة بشكل متكرر تعد من أهم مسببات تفاقم الألم لدى العاملين في المكاتب أو الأعمال اليدوية.
أعراض آلام الظهر المزمنة
تختلف أعراض آلام الظهر المزمنة من شخصٍ لآخر تبعًا لموضع الألم وسببه، لكنّها تشترك في سمة أساسية هي استمرار الألم لأكثر من 12 أسبوعًا دون تحسّن ملحوظ.
غالبًا ما يصف المرضى الألم بأنه شعور بالثقل أو الشدّ المستمر في أسفل الظهر، وقد يمتد إلى الأرداف أو الساقين. وتتضمّن الأعراض الشائعة ما يلي:
- ألم متواصل أو متقطّع يزداد مع الوقوف أو الجلوس لفترات طويلة.
- تصلّب في عضلات الظهر وصعوبة في الانحناء أو الحركة أثناء اليوم.
- التصلّب الصباحي: الشعور بصلابة وصعوبة في الحركة فور الاستيقاظ من النوم، وقد يستغرق الأمر بضع دقائق إلى ساعة للتخفيف.
- خدر أو وخز في الأطراف السفلية في حال تأثرت الأعصاب.
- ضعف في العضلات أو شعور بعدم التوازن أثناء المشي.
- تفاقم الألم أثناء السعال أو العطاس بسبب زيادة الضغط داخل العمود الفقري.
- اضطرابات في النوم أو المزاج نتيجة الألم المستمر والإرهاق المزمن.
تشخيص آلام الظهر المزمنة
يبدأ الطبيب عادةً بأخذ التاريخ المرضي الكامل، متضمّنًا طبيعة الألم ومدّته والعوامل التي تزيده أو تخفّفه، إضافةً إلى نمط الحياة مثل طبيعة العمل والنشاط البدني. بعد ذلك، يُجرى فحص سريري دقيق لتقييم حركة العمود الفقري، قوة العضلات، وردود الأفعال العصبية.
وفي حال الاشتباه بسبب محدّد، قد تُستخدم وسائل تصوير متقدّمة لتوضيح موضع المشكلة، مثل:
- الأشعة السينية (X-ray): لتقييم بنية الفقرات و الانحناءات غير الطبيعية.
- التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI): لتحديد الانزلاق الغضروفي أو ضغط الأعصاب بدقة.
- التصوير المقطعي (CT scan): للكشف عن تغيّرات العظام الدقيقة أو الكسور القديمة.
- اختبارات الأعصاب (EMG/Nerve conduction studies): لتقييم كفاءة الأعصاب في حالات الألم الممتدّ إلى الأطراف.
وفي بعض الحالات، يُوصى أيضًا بإجراء تحاليل دم للكشف عن مؤشرات الالتهاب أو الأمراض المناعية، مثل التهاب الفقرات التصلّبي أو الالتهاب الروماتويدي.
علاج آلام الظهر المزمنة
العلاج الدوائي
يُستخدم العلاج الدوائي لتخفيف الألم وتقليل الالتهاب وتحسين القدرة على الحركة. ومن أهم الأدوية التي يصفها الأطباء:
- المسكنات البسيطة (مثل الباراسيتامول): لتخفيف الألم الخفيف إلى المتوسط.
- مضادات الالتهاب غير الستيرويدية (NSAIDs) مثل الإيبوبروفين أو النابروكسين، لتقليل الالتهاب حول المفاصل والأنسجة.
- مرخيات العضلات في حالات التشنّجات العضلية المصاحبة للألم.
- مضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقات أو مثبّطات امتصاص السيروتونين والنورإبينفرين (SNRIs) لتخفيف الألم المزمن وتحسين النوم والمزاج.
- الحقن الموضعية بالكورتيزون لتقليل الالتهاب حول الأعصاب في الحالات الشديدة.
يُنصح دائمًا بعدم الاعتماد الطويل على المسكنات دون إشراف طبي لتجنّب الأعراض الجانبية.
العلاج الطبيعي
يُعدّ العلاج الطبيعي أحد أهم أركان علاج آلام الظهر المزمنة، إذ يساعد على تقوية العضلات الداعمة للعمود الفقري وتحسين المرونة.
يشمل البرنامج عادةً:
- تمارين التمدد (Stretching) لتخفيف التشنجات وتحسين حركة المفاصل.
- تمارين التقوية (Strengthening) لعضلات البطن والظهر لتحقيق دعم أفضل للعمود الفقري.
- العلاج الحراري أو البارد لتقليل الألم والالتهاب.
- العلاج اليدوي (Manual Therapy) لتخفيف الضغط عن الفقرات وتحسين الاستقامة.
وقد أثبتت الدراسات أن دمج التمارين المنتظمة مع التعليم حول الوضعيات الصحيّة أكثر فاعلية من الراحة أو الأدوية وحدها.
العلاج السلوكي والنفسي
في العديد من الحالات، يُسهم الجانب النفسي في استمرار الألم أو زيادته. لذا يُوصى بالعلاج السلوكي المعرفي (Cognitive Behavioral Therapy – CBT) لمساعدة المريض على:
- فهم العلاقة بين الألم والأفكار السلبية أو القلق.
- تعلّم استراتيجيات التكيّف مع الألم المزمن وتقليل التوتر.
- تحسين جودة النوم والمزاج العام.
وقد أظهرت الأبحاث أنّ هذا النوع من العلاج يمكن أن يُقلّل شدة الألم ويُحسّن الأداء اليومي، خاصة عند دمجه بالعلاج الطبيعي.
الجراحة
تُعدّ الخيار الأخير في علاج آلام الظهر المزمنة، وتُستخدم فقط عندما تفشل العلاجات الأخرى أو عند وجود سبب واضح قابل للتصحيح جراحيًا مثل:
- الانزلاق الغضروفي الشديد الذي يضغط على الأعصاب ويسبّب ضعفًا في الأطراف.
- تضيّق القناة الفقرية (Spinal Stenosis) المسبب للألم العصبي المستمر.
- عدم استقرار الفقرات أو الكسور الناتجة عن هشاشة العظام.
تشمل العمليات الجراحية الشائعة استئصال الغضروف (Discectomy)، أو تثبيت الفقرات (Spinal Fusion)، أو توسيع القناة العصبية.
ومع تطور التقنيات الحديثة، أصبحت الجراحة أكثر أمانًا وأقل تدخّلًا، لكن يجب اتخاذ القرار بعد تقييم شامل من فريق طبي متخصص.
العلاجات الحديثة لآلام الظهر المزمنة
العلاج بالبلازما (PRP)
- تُؤخذ عينة دم صغيرة من المريض لمعالجتها لتكوين بلازما غنية بالصفائح الدموية.
- تُحقن هذه البلازما في المناطق المتأثرة في العمود الفقري أو العضلات الداعمة للظهر.
- تحتوي البلازما على عوامل نمو تحفّز الشفاء الذاتي وتقليل الالتهاب في الأنسجة المتضررة.
يُعتبر هذا العلاج حاليًا ضمن نطاق العلاجات المكملة، حيث لا تزال الأدلة العلمية محدودة على فعاليته طويلة المدى.
التردد الحراري للأعصاب
- تُدخل إبرة دقيقة إلى العصب أو النهايات العصبية تحت توجيه الأشعة.
- يُطبّق تردد حراري لتقليل نشاط الألياف العصبية التي تنقل الألم.
- يُستخدم عادةً في الحالات التي لم تستجب للعلاجات التحفظية، مثل الانزلاق الغضروفي أو تضيّق القناة العصبية.
العلاج بالليزر منخفض الطاقة
- يُطبّق أشعّة ليزر منخفضة الطاقة على الجلد فوق منطقة الألم أو العضلات المحيطة.
- تعمل هذه الأشعّة على تحفيز الأنسجة وتخفيف الالتهاب وتحسين تدفّق الدم.
- أظهرت مراجعة شملت أكثر من 1000 مشارك أن العلاج بالليزر يُقلّل الألم على المدى القصير، خصوصًا عند استخدام جرعات مناسبة ≥ 3 جول لكل نقطة.
الحقن الموجه بالأشعة
- تُحقن أدوية مثل الكورتيزون أو المخدّرات الموضعية مباشرةً في المفاصل بين الفقرات أو حول الأعصاب.
- يُستخدم توجيه الأشعة لضمان الدقة في مكان الحقن.
- يُساعد هذا التدخل على تخفيف الالتهاب وتحسين الحركة مؤقتًا، ويُدمج عادةً مع العلاج الطبيعي وتعديل نمط الحياة لتحقيق أفضل النتائج.
نصائح طبية لتخفيف آلام الظهر المزمنة في المنزل
- الحفاظ على الحركة (باعتدال): على عكس الألم الحاد، الراحة المطلقة ليست مفيدة للألم المزمن. يجب ممارسة النشاطات الخفيفة بانتظام (مثل المشي والسباحة) للحفاظ على قوة العضلات.
- تمارين الإطالة اليومية: إدراج تمارين إطالة بسيطة للظهر وأوتار المأبض (Hamstrings) للحفاظ على المرونة وتقليل التصلب.
- تطبيق الحرارة أو البرودة: استخدام الكمادات الدافئة لتهدئة العضلات المتشنجة، أو الكمادات الباردة لتقليل الالتهاب الموضعي.
- الاهتمام بوضعية الجلوس والنوم: استخدام كرسي داعم في العمل، وتجنب الجلوس بوضعيات متراخية، واستخدام مرتبة متوسطة الصلابة لدعم محاذاة العمود الفقري أثناء النوم.
أسئلة شائعة قد تهمك
متى يصبح ألم الظهر خطيرًا؟
قد يشير ألم الظهر إلى حالة خطيرة عندما يصاحبه أحد الأعراض التالية:
- ضعف شديد أو فقدان الإحساس في الساقين أو القدمين.
- فقدان السيطرة على المثانة أو الأمعاء (سلس البول أو البراز).
- ألم شديد مستمر لعدة أسابيع لا يخف بالراحة أو العلاج التحفظي.
- ارتفاع الحرارة أو فقدان الوزن غير المبرر مع الألم، ما قد يدل على التهاب أو ورم.
في هذه الحالات، يُنصح بمراجعة الطبيب فورًا لتقييم الحالة وإجراء الفحوصات اللازمة.
هل الجراحة ضرورية لعلاج آلام الظهر المزمنة؟
لا تُعدّ الجراحة الخيار الأول لمعظم حالات آلام الظهر المزمنة. يتم اللجوء إليها فقط عندما:
- تفشل جميع العلاجات التحفظية مثل الأدوية والعلاج الطبيعي والدعم النفسي.
- يكون هناك سبب واضح قابل للتصحيح جراحيًا مثل الانزلاق الغضروفي الشديد، تضيّق القناة العصبية، أو عدم استقرار الفقرات.
- يرافق الألم ضعف عصبي مستمر أو تأثير كبير على الحياة اليومية.
تُظهر الدراسات أنّ الأغلبية العظمى من المرضى يتحسّنون بشكل جيد من خلال العلاجات التحفظية، وتُعتبر الجراحة خيارًا محدودًا، يجب أن يُتخذ بعد تقييم شامل من فريق طبي متخصص.
تُعد آلام الظهر المزمنة من أكثر الحالات شيوعًا حول العالم، لكنها قابلة للتحكم والتخفيف من خلال تقييم دقيق، علاج تحفظي شامل، وعناية مستمرة بنمط الحياة. تجمع العلاجات الحديثة بين الأساليب التقليدية والتقنيات المتطورة، مع ضرورة اختيار النهج الأنسب لكل حالة بالتنسيق مع الفريق الطبي، لضمان أفضل نتائج ممكنة وتحسين جودة الحياة.