فقد لاحظ الأطباء أنّ كثيرًا من المصابين بهذه الجرثومة يعانون من القلق، والاكتئاب، واضطرابات النوم إلى جانب الأعراض الجسدية المعروفة. هذه العلاقة المدهشة بين المعدة والدماغ أثارت اهتمام الباحثين، لتفتح بابًا جديدًا لفهم كيف يمكن لخللٍ في الجهاز الهضمي أن ينعكس على المزاج والحالة النفسية بشكلٍ مباشر.

ما هي جرثومة المعدة وكيف تؤثر على الجسم؟

التعريف الطبي لجرثومة المعدة (Helicobacter pylori).

جرثومة المعدة هي نوع من البكتيريا الحلزونية التي تستوطن الغشاء المخاطي المبطن للمعدة. تتميز هذه البكتيريا بقدرتها الفريدة على تحمل البيئة شديدة الحموضة للمعدة، مما يجعلها قادرة على البقاء والتكاثر لسنوات طويلة دون أن يتم اكتشافها.

جرثومة المعدة
جرثومة المعدة

كيف تسبب الالتهابات والقرح في جدار المعدة

بعد دخولها إلى المعدة، تفرز هذه الجرثومة إنزيمات تضعف الغشاء المخاطي الواقي لجدار المعدة، ما يسمح للأحماض المعدية بإحداث التهابات وتهيّجات مزمنة. ومع مرور الوقت، تؤدي هذه العملية إلى تآكل الطبقة الداخلية للمعدة، مما يزيد خطر تكوّن القرح الهضمية والشعور بالحرقة والألم في الجزء العلوي من البطن.

تشير أبحاث منشورة في(National Institutes of Health NIH) إلى أنّ أكثر من 70% من حالات قرحة المعدة ناتجة عن هذه الجرثومة.

تأثيرها على امتصاص العناصر الغذائية الهامة

لا يقتصر ضرر جرثومة المعدة على الالتهاب فحسب، بل يمكن أن تؤثر سلبًا على امتصاص العناصر الغذائية الأساسية مثل الحديد وفيتامين B12، وهما عنصران ضروريان لتكوين خلايا الدم السليمة والحفاظ على توازن الجهاز العصبي.

العلاقة بين جرثومة المعدة والجهاز العصبي

شرح مبسط لمحور “المعدة – الدماغ”

يُعرف الاتصال بين الجهاز الهضمي والجهاز العصبي باسم محور المعدة–الدماغ (Gut–Brain Axis)، وهو شبكة معقّدة من الإشارات العصبية والهرمونية التي تربط المعدة والأمعاء بالدماغ. هذا المحور يعمل في الاتجاهين، أي أنّ الدماغ يؤثر على وظائف الجهاز الهضمي مثل حركة المعدة وإفراز العصارات، وفي المقابل، ترسل المعدة إشارات إلى الدماغ تُسهم في تنظيم المزاج، والإحساس بالتوتر أو الارتياح.

عندما تُصاب المعدة بعدوى جرثومة H. pylori، يحدث اضطراب في هذا التواصل الحيوي، إذ تُطلِق المعدة إشارات التهابية وكيميائية تغيّر طريقة استجابة الجهاز العصبي.

دور العصب الحائر في نقل الإشارات بين المعدة والمخ.

يُعدّ العصب الحائر (Vagus Nerve) أحد أهم الأعصاب في الجسم، وهو المسؤول عن الربط المباشر بين المعدة والدماغ. يعمل هذا العصب كطريق سريع ثنائي الاتجاه؛ إذ ينقل الإشارات العصبية من الدماغ إلى المعدة لتنظيم عملية الهضم، وفي المقابل، يُرسل إشارات من المعدة إلى الدماغ تُعبّر عن حالتها الداخلية، مثل الجوع، والامتلاء، أو الالتهاب.

عند الإصابة بجرثومة المعدة، يتعرّض العصب الحائر لتحفيز زائد نتيجة الالتهاب المزمن، مما يؤدي إلى زيادة نشاط الجهاز العصبي اللاإرادي، وهو ما يفسّر شعور بعض المرضى بالقلق، وتسارع ضربات القلب، والتوتر دون سبب نفسي واضح.

أكّدت دراسة في Journal of Neuroinflammation أنّ الالتهابات الهضمية المزمنة يمكن أن تُحدث تغيّرات في الإشارات العصبية المنقولة عبر العصب الحائر، ما ينعكس سلبًا على المزاج ووظائف الدماغ.

كيف يمكن لالتهاب المعدة أن يسبب تغيرات كيميائية في الدماغ.

عند الإصابة بجرثومة المعدة، يُفرز الجسم سلسلة من الجزيئات الالتهابية مثل السيتوكينات (Cytokines) التي تدخل الدورة الدموية وتؤثر على وظائف الدماغ. هذه المواد يمكن أن تغيّر مستويات النواقل العصبية مثل السيروتونين والدوبامين، وهما المسؤولان عن تنظيم المزاج والشعور بالسعادة أو التوتر.     

اختلال التوازن الهرموني
اختلال التوازن الهرموني

أعراض جرثومة المعدة النفسية 

القلق المستمر والشعور بالتوتر.

 يُعدّ القلق المستمر أكثر الأعراض النفسية شيوعاً، إذ يشعر المريض بتوتر غير مبرر لا يتناسب مع ظروفه اليومية، وهو ما يعكس استجابة الدماغ للإشارات الالتهابية القادمة من الأمعاء.

الاكتئاب وتقلبات المزاج.

تشير الأبحاث إلى أن العدوى بجرثومة المعدة قد تُحدث خللاً في إنتاج السيروتونين، وهو الناقل العصبي الذي يُنظّم المزاج والشعور بالسعادة. هذا الخلل قد يؤدي إلى اكتئاب خفيف أو متوسط، مصحوب بفقدان الاهتمام، وانخفاض الطاقة، وتقلبات مزاجية مفاجئة.

اضطرابات النوم والأرق.

تسبب الالتهابات المعدية المزمنة اضطرابًا في الساعة البيولوجية للجسم، كما تؤدي المستويات المرتفعة من الكورتيزول إلى صعوبة في النوم أو الاستيقاظ المتكرر ليلًا. بعض المرضى يصفون نومهم بأنه “سطحي” وغير مريح حتى بعد ساعات طويلة من الراحة.

الخوف المفاجئ أو نوبات الهلع.

في حالات نادرة، قد يُلاحظ بعض المرضى زيادة في حدوث نوبات الهلع أو الخوف المفاجئ. هذا يرجع إلى التنشيط المستمر لمحور الأمعاء-الدماغ، الذي يضع الجسم في حالة تأهب وقلق دائمين.

صعوبة التركيز والشعور بالضباب الذهني.

تؤثر الجرثومة أيضًا على القدرات الإدراكية من خلال انخفاض تدفق الدم إلى الدماغ وارتفاع المواد الالتهابية في الدم، ما يؤدي إلى ضعف التركيز والشعور بما يُعرف بـالضباب الذهني” (Brain Fog)، حيث يجد المريض صعوبة في التفكير بوضوح أو تذكّر المعلومات.

لماذا تؤثر جرثومة المعدة على الحالة النفسية؟

نقص العناصر الحيوية مثل فيتامين B12 المسؤول عن توازن المزاج.

تتسبب جرثومة H. pylori في إضعاف بطانة المعدة المسؤولة عن امتصاص فيتامين B12 وحمض الفوليك. يُعدّ فيتامين B12 عنصراً حيوياً لصحة الجهاز العصبي، ونقصه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بـ تفاقم الاكتئاب واضطرابات المزاج والتعب المزمن.

الالتهاب المزمن وإفراز هرمونات التوتر (الكورتيزول).

يؤدي الالتهاب المستمر في المعدة إلى إطلاق إشارات تفعيل للجهاز العصبي الودّي، مما يحفّز الغدة الكظرية على إفراز هرمونات التوتر، مثل الكورتيزول. الارتفاع المزمن للكورتيزول يرهق الجسم والدماغ، ويزيد من حدة القلق والتوتر.

تفاعل الجهاز المناعي مع الجهاز العصبي.

تعتبر الأمعاء موطناً لجزء كبير من الخلايا المناعية. يؤدي تفاعل الجهاز المناعي لمواجهة الجرثومة إلى إطلاق مواد كيميائية تؤثر على وظائف المخ. هذا التفاعل هو جزء من حوار المناعة-العصبية، ويثبت أن صحة الأمعاء هي عامل مُحدِّد للحالة العاطفية.

نصائح للتعامل مع الأعراض النفسية لجرثومة المعدة

لا تقتصر رحلة التعافي من جرثومة المعدة على علاج العدوى بالأدوية فقط، بل تحتاج أيضًا إلى رعاية نفسية وسلوكية تُعيد التوازن للجسم والعقل معًا:

ممارسة النشاط البدني الخفيف.

يساعد المشي اليومي أو تمارين التمدد البسيطة على تحسين تدفق الدم إلى الجهاز الهضمي، وتحفيز إفراز الإندورفين، وهو الهرمون المسؤول عن تحسين المزاج وتقليل التوتر. كما تساهم الرياضة في تنظيم هرمونات الكورتيزول والأدرينالين، مما يحد من القلق الناتج عن الالتهابات المزمنة.

وفقًا لمؤسسة Mayo Clinic، فإن النشاط البدني المنتظم يُعدّ من أكثر الوسائل فاعلية في تقليل أعراض القلق والاكتئاب

 تجنب الكافيين والتدخين.

يُعدّ كلٌّ من الكافيين والنيكوتين من المحفزات العصبية التي تزيد إفراز الأحماض المعدية، وتُفاقم الشعور بالقلق والأرق. تقليل القهوة والمشروبات الغازية، والتوقف عن التدخين، يُخفف من تهيّج المعدة ويُساعد على استقرار الحالة النفسية.

النوم المنتظم.

النوم الجيد يُعزّز عملية شفاء المعدة واستقرار الهرمونات المرتبطة بالمزاج. من المفيد تحديد مواعيد نوم ثابتة، والابتعاد عن الشاشات قبل النوم، وممارسة تمارين التنفس العميق لتقليل نشاط الجهاز العصبي.

استشارة الطبيب في حال استمرار القلق أو الاكتئاب.

عند استمرار الأعراض النفسية رغم تحسّن المعدة، يُستحسن مراجعة طبيب مختص في الطب النفسي أو الطب النفسي الجسدي لتقييم الحالة بشكل شامل.

أسئلة شائعة قد تهمك 

هل القلق يزيد من أعراض جرثومة المعدة؟

نعم، العلاقة ثنائية الاتجاه. لا يتسبّب القلق في حدوث جرثومة المعدة بشكل مباشر، لكنه يزيد من شدّة أعراضها. التوتر والقلق يزيدان من إفراز حمض المعدة، ما يفاقم الألم والالتهاب الذي تسببه الجرثومة.

ما الفرق بين أعراض جرثومة المعدة الجسدية والنفسية؟

الأعراض الجسدية تشمل عادةً:

  • ألم المعدة.
  • الانتفاخ.
  • الغثيان.
  • الحرقة. 

وهي ناتجة عن الالتهاب أو القرح في بطانة المعدة.

أما الأعراض النفسية فتظهر في شكل:

  •  قلق.
  • اكتئاب.
  •  اضطراب في النوم.
  •  ضباب ذهني.

وتنشأ بسبب التفاعل بين محور المعدة–الدماغ والالتهاب المزمن.

هل تختفي الأعراض النفسية بعد علاج الجرثومة؟

في كثير من الحالات، تتحسن الأعراض النفسية بشكل ملحوظ بعد القضاء الناجح على جرثومة H. pylori. خاصةً إذا تم دعم العلاج الدوائي بتغييرات في نمط الحياة مثل النوم المنتظم والتغذية المتوازنة. ومع ذلك، قد تستمر بعض الأعراض لفترة مؤقتة بسبب تأخر استعادة التوازن الميكروبي في الأمعاء.

لقد أثبتت الأبحاث أنّ المعدة ليست مجرد عضو للهضم، بل مرآة لحالتنا النفسية والعصبية. إنّ العلاقة بين جرثومة المعدة والمزاج تُظهر بوضوح مدى ترابط الجسد والعقل، وتذكّرنا بأن علاج أي اضطراب نفسي يبدأ أحيانًا من معالجة الجسد ذاته. فإذا كنت تعاني من أعراض نفسية مصاحبة لمشكلات هضمية، فإن التشخيص المبكر لجرثومة المعدة قد يكون الخطوة الأولى نحو التعافي الشامل.