لكن قبل اللجوء إلى حميات قاسية أو حلول غير مدروسة، من الضروري فهم الأسباب الفعلية وراء هذه الظاهرة. فالجسم بعد الولادة يمر بتحوّلات هرمونية ونفسية وجسدية معقدة، تؤثر بشكل مباشر في عملية حرق الدهون، وفي قدرة الأم على فقدان الوزن بشكل طبيعي وآمن.

في هذا المقال، نستعرض أبرز الأسباب التي قد تؤدي إلى عدم نزول الوزن بعد الولادة، بما في ذلك التغيرات الهرمونية، الرضاعة، اضطرابات النوم، والاكتئاب. كما نقدم خطة عملية وآمنة لخسارة الوزن تدريجيًا دون التأثير في صحة الأم أو الرضيع، مدعومة برأي طبي ومصادر موثوقة.

أسباب عدم نزول الوزن بعد الولادة

إن ثبات الوزن بعد الولادة ليس ناتجًا عن سبب واحد فقط، بل هو نتيجة تداخل عدة عوامل فزيولوجية، نفسية وسلوكية. نوضح في ما يلي أبرز الأسباب العلمية التي قد تفسّر هذه الظاهرة:

التغيرات الهرمونية بعد الولادة

تمر المرأة بعد الولادة بتقلبات هرمونية كبيرة تؤثر بشكل مباشر في عملية التمثيل الغذائي والشهية واحتباس السوائل، مما قد يُعيق فقدان الوزن:

  • ارتفاع هرمون البرولاكتين (Prolactin):
    يُنتَج هذا الهرمون بشكل طبيعي لدعم الرضاعة، لكنه قد يزيد من الشعور بالجوع، خاصة لدى النساء المرضعات، مما يؤدي إلى تناول كميات أكبر من الطعام لتعويض الطاقة، أحيانًا دون وعي بكميات السعرات.
  • انخفاض مستوى الإستروجين:
    يؤدي انخفاض الإستروجين بعد الولادة إلى تغيّرات في توزيع الدهون بالجسم، وزيادة احتمال احتباس السوائل، مما يعطي انطباعًا بثبات الوزن أو زيادته، رغم بذل مجهود في التغذية أو الرياضة.

الرضاعة الطبيعية

  • كمية السعرات التي تحرقها الرضاعة

تُعتبر الرضاعة الطبيعية من العمليات الحيوية التي تزيد من استهلاك الجسم للسعرات الحرارية، إذ يحتاج إنتاج الحليب إلى طاقة إضافية.
وفقًا لمنظمات رعاية الأمومة مثل La Leche League International، فإن الرضاعة الطبيعية تحرق في المتوسط نحو 500 إلى 700 سعر حراري يوميًااعتمادًا على عدد مرات الرضاعة، وكمية الحليب المنتجة، وعمر الرضيع.

ورغم أن هذا قد يُعطي انطباعًا بأن الرضاعة تساهم بفعالية في فقدان الوزن، إلا أن النتائج تختلف من امرأة لأخرى، بناءً على عوامل عديدة مثل النظام الغذائي، النشاط البدني، والاستعداد الجيني.

  •  الجوع المُفرِط لتعويض الطاقة المفقودة

من الآثار الشائعة للرضاعة الطبيعية هو الشعور المتزايد بالجوع والعطش، وهو أمر طبيعي نتيجة فقدان الجسم لكميات من الطاقة والسوائل.
يفرز الجسم هرمونات معينة أثناء الرضاعة (مثل الأوكسيتوسين) تُحفّز الشعور بالراحة، لكنها قد تؤثر أيضًا في مركز الشهية في الدماغ، مما يزيد الرغبة في تناول الطعام، خصوصًا الأغذية الغنية بالكربوهيدرات أو السكر السريع الامتصاص.

ومع غياب الوعي الغذائي، قد يؤدي هذا الجوع إلى تناول وجبات زائدة أو غير متوازنة، مما يُقلل من فرص خسارة الوزن، بل قد يؤدي إلى زيادته رغم مجهود الرضاعة.

لهذا، من المهم أن تُركّز الأم المرضعة على التوازن الغذائي، واللجوء إلى خيارات مشبعة وغنية بالبروتين والألياف مثل الحبوب الكاملة، البقوليات، المكسرات، والخضروات الطازجة.

نمط النوم المتقطع والحرمان من النوم

  • علاقة قلة النوم بهرمون الكورتيزول وزيادة الوزن.

من الشائع أن تواجه الأم الجديدة اضطرابات في النوم، خاصة في الأشهر الأولى من حياة الطفل. لكن ما قد لا يُدركه كثيرون هو أن النوم المتقطع وقلة النوم المزمنة قد تؤثر بشكل مباشر في قدرة الجسم على خسارة الوزن.
عند الحرمان من النوم، يُفرز الجسم كميات أعلى من هرمون الكورتيزول، وهو هرمون التوتر الذي يُحفّز تخزين الدهون، خاصةً في منطقة البطن.
كما تساهم قلة النوم في زيادة هرمون الغريلين (المسؤول عن الجوع)، وتقليل هرمون اللبتين (المسؤول عن الشبع)، مما يُؤدي إلى اضطراب الشهية وزيادة تناول الطعام دون حاجة حقيقية.

إضافة إلى ذلك، يُبطئ الحرمان من النوم عمليات الأيض ويُقلل من قدرة الجسم على استخدام الطاقة بكفاءة، مما يؤدي إلى تباطؤ في خسارة الوزن حتى مع الحمية أو النشاط البدني.

  • نصائح عملية لتحسين جودة النوم

رغم أن النوم العميق والمتواصل قد يبدو مستحيلاً في الأشهر الأولى بعد الولادة، إلا أن هناك بعض الاستراتيجيات التي قد تُساعد في تحسين جودة النوم:

  • محاولة النوم عند نوم الطفل، حتى لو لفترات قصيرة.
  • تقسيم المهام الليلية مع الشريك أو أحد أفراد العائلة.
  • تجنب الكافيين في فترة ما بعد الظهر والمساء.
  • الابتعاد عن الشاشات (الهاتف والتلفاز) قبل النوم بما لا يقل عن 30 دقيقة.
  • تهيئة غرفة النوم لتكون مظلمة وهادئة، وذات تهوية مناسبة.
  • إذا استمرت اضطرابات النوم بشكل يؤثر على المزاج أو الطاقة، يُفضّل استشارة طبيب لاستبعاد وجود اكتئاب ما بعد الولادة أو اضطراب نوم حاد.

عوامل طبية تؤثر في ثبات الوزن

قد لا يكون سبب ثبات الوزن بعد الولادة مرتبطًا فقط بنمط الحياة أو التغذية، بل قد تكون هناك عوامل طبية خفية تؤثر على معدل الحرق واستجابة الجسم لفقدان الوزن، وأبرزها:

  • قصور الغدة الدرقية بعد الولادة

قصور الدرقية التالي للولادة (Postpartum thyroiditis) حالة تصيب بعض النساء خلال السنة الأولى بعد الولادة، وتؤدي إلى انخفاض إنتاج هرمونات الغدة الدرقية، مما يُبطئ عملية الأيض ويُسبب زيادة أو ثبات الوزن، إلى جانب التعب والإرهاق وتساقط الشعر.

 وفقًا للـ American Thyroid Association، فإن 5% إلى 10% من النساء يُصبن بهذه الحالة خلال العام الأول بعد الولادة، وهي غالبًا مؤقتة، لكنها قد تستمر لدى البعض وتحتاج علاجًا هرمونيًا.

  • أدوية الاكتئاب أو مسكنات الألم بعد القيصرية

في حالات الولادة القيصرية أو عند المعاناة من اكتئاب ما بعد الولادة، قد تُوصف أدوية مثل مضادات الاكتئاب أو المسكنات الأفيونية(أدوية تستخدم لتخفيف الألم). بعض هذه الأدوية قد تُسبب احتباس السوائل، زيادة الشهية، أو تباطؤ الحرق، مما يؤثر سلبًا على خسارة الوزن.

 أشارت مراجعة نُشرت في Journal of Clinical Psychiatry إلى أن بعض مضادات الاكتئاب من الجيل الثاني قد ترتبط بزيادة الوزن على المدى الطويل، خاصة عند استخدامها لفترات تتجاوز 6 أشهر.

العادات الغذائية الخاطئة بعد الولادة

بعد الولادة، تميل بعض الأمهات إلى تناول كميات أكبر من الطعام أو اللجوء إلى أطعمة عالية السعرات والسكريات بدعوى “زيادة إدرار الحليب” أو لتعويض الإرهاق البدني. ورغم أن التغذية الجيدة ضرورية في هذه المرحلة، إلا أن الإفراط في الأطعمة المعالجة والمقلية والمشروبات المحلاة قد يؤدي إلى زيادة الوزن أو ثباته، خصوصًا إذا ترافق ذلك مع قلة الحركة. كما أن تكرار “الوجبات الخفيفة العشوائية” ليلًا بسبب اضطرابات النوم يرفع السعرات اليومية دون شعور الأم. ينصح الأطباء باتباع نظام متوازن يُركّز على البروتينات، الخضروات، والحبوب الكاملة، مع تنظيم مواعيد الأكل لتفادي تناول السعرات الزائدة دون وعي.

محدودية الحركة ونقص النشاط البدني

في الأسابيع الأولى بعد الولادة، خصوصًا بعد القيصرية، قد تضطر الأم للبقاء في السرير أو الحد من نشاطها البدني بسبب الألم أو قلة النوم. لكن المشكلة تبدأ عندما يستمر هذا النمط لأشهر، مما يُقلل من معدل حرق السعرات الحرارية. حتى الأعمال المنزلية اليومية قد لا تكون كافية لتحفيز الجسم على حرق الدهون، خاصة مع التغيّرات الهرمونية. تشير دراسات إلى أن ممارسة 30 دقيقة من النشاط المعتدل، مثل المشي أو تمارين التمدد، 5 أيام في الأسبوع، يُحسّن من معدل الاستقلاب ( كمية الطاقة التي يحتاجها الجسم في حالة الراحة للحفاظ على وظائفه الحيوية) ويساعد في استعادة الوزن الصحي تدريجيًا.

اكتئاب ما بعد الولادة

يُعد اكتئاب ما بعد الولادة من أبرز العوامل النفسية التي تؤثر في سلوك الأكل ومستويات الطاقة.

تشير التقديرات إلى أن ما بين 10% إلى 15% من النساء يُصبن بهذه الحالة في السنة الأولى بعد الولادة، مما قد يؤدي إلى الإفراط في تناول الطعام كوسيلة للتعامل مع المشاعر السلبية، أو بالعكس فقدان الشهية. إضافةً إلى ذلك، قد تترافق الحالة مع قلة النوم، وانخفاض الدافع لممارسة أي نشاط بدني. بعض الأدوية المضادة للاكتئاب أيضًا، خاصةً من الجيل الثاني، قد تسبب زيادة في الوزن عند الاستخدام الطويل. من المهم طلب الدعم النفسي والطبي عند ملاحظة الأعراض، لأن علاج الحالة النفسية يسهم بشكل غير مباشر في كسر ثبات الوزن واستعادة النشاط. 

خطة تدريجية لنزول الوزن بعد الولادة بأمان

بعد الولادة، قد يكون استرجاع الوزن المثالي من أولويات كثير من الأمهات، لكن الأهم هو اتباع خطوات آمنة ومدروسة تراعي احتياجات الجسم في هذه المرحلة الحساسة، وتدعم الرضاعة وصحة الأم في آنٍ معًا.

ضبط السعرات دون التأثير في الرضاعة

تقليل السعرات الحرارية بشكل مفاجئ قد يُؤثر على إنتاج الحليب ويُرهق الجسم الذي لا يزال في طور التعافي. ولهذا يُنصح بعدم البدء بأي خفض في السعرات قبل مرور 6 إلى 8 أسابيع من الولادة. بعدها، يمكن خفض ما يقارب 400–500 سعرة حرارية يوميًا، وهو ما يسمح بفقدان وزن تدريجي دون التأثير في كمية الحليب.

تقسيم الوجبات والغذاء الغني بالبروتين والألياف

الوجبات الصغيرة المتكررة التي تحتوي على مصادر بروتين (كالبيض، الدجاج، البقوليات) وألياف (كالخضروات، الشوفان، الفاكهة الكاملة) تُساعد على:

  • تقليل الشعور بالجوع المفاجئ.
  • الحفاظ على مستويات السكر ثابتة.
  • الشعور بالشبع لمدة أطول.

وتشير توصيات “Harvard Health” إلى أن تناول وجبات مغذية كل 3-4 ساعات هو الخيار الأفضل للأمهات الجدد، خاصة مع نمط الحياة الجديد المليء بالتحديات.

دمج التمارين الهوائية وتمارين المقاومة الخفيفة

لا حاجة إلى الذهاب لصالة الرياضة مباشرة! يمكن البدء تدريجيًا بـ:

  • المشي اليومي لمدة 20–30 دقيقة.
  • تمارين التمدد والتنفس العميق.
  • ثم إدخال تمارين مقاومة خفيفة باستخدام وزن الجسم، أو حبال رياضية مرنة.

هذه التمارين تُحسّن من عملية الأيض، وتُساعد على شدّ الجسم وتخفيف التوتر دون إرهاق عضلات الحوض أو البطن.

توصي الكلية الأمريكية لأطباء النساء والتوليد  ببدء التمارين بعد استشارة الطبيب، وغالبًا ما يكون ذلك آمنًا بعد 6 أسابيع من الولادة الطبيعية.

أسئلة شائعة قد تهمك 

متى يمكن البدء بالتمارين بعد ولادة طبيعية أو قيصرية؟

يختلف توقيت العودة إلى التمارين البدنية حسب نوع الولادة وحالة الأم الصحية.

 بعد الولادة الطبيعية، يمكن لمعظم النساء البدء بتمارين خفيفة، مثل المشي أو تمارين التمدد، بعد أيام قليلة من الولادة، ما دامت حالتهن تسمح بذلك ولم تكن هناك مضاعفات.

  أما في حالة الولادة القيصرية أو عند وجود تمزقات أو مضاعفات، يُوصى بالانتظار حتى موعد الفحص الطبي الذي يكون عادةً بعد 6 أسابيع من الولادة، واستشارة الطبيب قبل البدء بأي نشاط بدني.

 ابدئي ببطء، وركزي على تمارين تقوية عضلات قاع الحوض، والتنفس العميق، واستعادة وضعية الجسم، وتجنّبي التمارين الشديدة أو رفع الأثقال حتى يعطيك الطبيب الضوء الأخضر.

ثبات الوزن بعد الولادة قد يكون تجربة محبطة، لكنه أمر طبيعي ناتج عن تغيّرات هرمونية، نفسية، وجسدية عميقة. المفتاح ليس في اتباع حميات قاسية أو البحث عن حلول سريعة، بل في اتباع نمط حياة متوازن يجمع بين التغذية السليمة، النشاط البدني المناسب، والدعم النفسي.

تذكّري أن جسمك بحاجة إلى وقت ليتعافى، وأن رحلة استعادة الوزن الصحي تبدأ بالصبر، الوعي، والاهتمام بصحتك وصحة رضيعك.
استشيري طبيبك دائمًا قبل البدء بأي خطة غذائية أو روتين رياضي، وامنحي نفسك المساحة لتتعافي وتزدهري كأم.