1. الطب مبني على الحجة Evidence based medecine:

تخضع عالميا، كل معلومة طبية ينطق بها أي طبيب أو مختص لمنطق الحجية العلمية. فحين أقول مثلا إن ارتفاع ضغط الدم يزيد من نسبة وقوع جلطات دماغية Strokes، ليس لأنني استنتجت منطقيا أن ارتفاع الضغط يشكل حتما خطرا على جدار الشرايين بحكم الخصائص الفيزيولوجية المعروفة سلفا (وهو استنتاج منطقي)، ولا لأنني لاحظت -حسب تجربتي الشخصية في عيادتي- أن مرضى ارتفاع الضغط يتعرضون للجلطات أكثر من غيرهم (بالرغم من أن ذلك صحيح). 

هذا الإدعاء نابع من عدة دراسات تضم عشرات الآلاف من المرضى، وتتم المقارنة بينهم، ويدرس تأثير ارتفاع الضغط بشكل مستقل عن باقي العوامل (السن والسوابق المرضية الأخرى…). 

تنشر هذه الدراسات في مجلات ذات عامل موثوقية impact factor مرتفع، لتطلع عليها الجمعيات العلمية وتنتقدها بمقالات علمية أو أثناء المؤتمرات السنوية، وربما تطلب إجراء دراسات أوسع وأكثر موثوقية، ويتم تنقيط المعلومة الطبية بحسب سلم دقيق سأتحدث عنه في الفقرة الموالية. كل ذلك كي أتمكن أنا من النطق بكل ثقة بهذه الجملة التي ربما تبدو لأول وهلة بديهية: نعم، ارتفاع الضغط مرض يزيد من نسبة الإصابة بجلطة الدماغ

2. من مستوى الحجة (level of evidence) إلى درجة التوصية (Class of recommandation)

حين تقول الجمعيات الطبية إن هذا الدواء يصلح لهذا المرض، فإن هذا الادعاء يتم ترتيبه بحسب قوة الحجة، كالتالي: 

  • المستوى A: إقرار ناتج عن دراستين كبيرتين على الأقل أو تحليل إحصائي لعدد من الدراسات Metaanalysis. قُلت “كبيرتين” كاختصار لخاصيات محددة أذكر من بينها:
    1. ‏Randomized: أي اختيار عشوائي للمرضى، وليس كما يحلو للباحث.
    2. ‏Large: أي بعدد كبير من المرضى يسمح لنا بسحب الخلاصة على عامة الناس. 
    3. Controlled: أي يتم مقارنة هذا العدد الكبير بعدد مماثل لا يأخذ ذلك الدواء.
    4. Double blinded: أي أن المريض والطبيب لا يعلمان هل المريض الفلاني أخذ الدواء أم أخذ العلاج المموه Placebo.

كي أقرب المعنى، إذا أردت أن أحسم أن علاجا ما فعال وآمن للمرضى الذين يعانون من اضطراب معين، فعلي إجراء دراسة تشمل 2000 مريض مثلا، متشابهين في المعطيات الديموغرافية، تم اختيارهم عشوائيا، 1000 يأخذون العلاج المقترح  و1000 لا يأخذونه، دون أن يكون لي أي نوع من التدخل أو المعرفة القبلية لتفادي عوامل الخطأ Bias، ثم أدرس إحصائيا المصير السريري لكل مريض على حدى Clinical outcomes، مع تحديد مسبق للنقطة التي أريد أن أنتهي إليها endpoint.

  • المستوى B: إقرار ناتج عن دراسة كبيرة واحدة أو مجموعة دراسات أقل صلابة وصغيرة الحجم.
  • المستوى C: وهو الأضعف، يعتمد على دراسات بعدية Retrospective، سجلات Registry واتفاق الاختصاصيين في المسألة Expert consensus.

هذا التمحيص العلمي الدقيق لجميع الدراسات الواردة في موضوع معين، يفضي إلى درجة التوصية من طرف الجمعيات العلمية حسب 3 درجات أيضا:

  1. هناك إجماع واسع على فعالية العلاج.
  2. هناك تضارب في الآراء.
  3. هناك إجماع على عدم استعمال هذا العلاج وقد يكون غير ذي منفعة بل ضارا أحيانا.

3. السببية في الطب Causality link

خلق الله جسم الإنسان بنظام معقد وعسير على الفهم، فإن العلاقة بين الظاهرة 1 والظاهرة 2، ليست دائما بالبساطة التي نحسب، ولا يمكن أبدا في الطب تطبيق التسلسل الاستدلالي المبني على ما هو متوقع ومنطقي من وجهة نظرنا. أسوق هنا مثالا على ذلك: أثبتت دراسات كبيرة أن نوعا معينا من الدهنيات مرتبط بزيادة الذبحات الصدرية، ثم أثبتت دراسات أخرى قوية أن نوعا معينا من الأدوية يقوم بخفض هذه الدهون، إلا أن الدراسات، وخلافا للمتوقع، أخفقت في إيجاد رابط بين استعمال هذا الدواء ونقص نسبة الذبحات الصدرية، لماذا؟ لا نعلم، لأن جسم الإنسان أعقد مما نتصور!

4. العاطفة في الإقرار الطبي.. أمر غير مقبول!

  • خطاب المظلومية: لا أتذكر قامة من أطباء البحث العلمي، في عشرات المؤتمرات الوطنية والدولية التي حضرتها، ومئات المقالات الطبية التي قرأتها يُقحم في مداخلته التذكير بحياته الشخصية مثلا، أو معاناته والعقبات التي واجهته في إنتاج هذا العمل. قوة الطرح تتعلق حصرا بقوة ومصداقية ما يتم تقديمه من معلومات، وميزان ذلك العقل والأدوات التي اتفقت عليها الجمعيات العلمية، والتي لا يملك أحد، طبيبا كان أو غير ذلك، أن يقفز عليها أو يتجاهلها.
  • حسن النية: حسن النية ونُبل المقصد لا يزيدان في رجاحة القول العلمي. ما يعنينا كأطباء، هو النفاذ إلى قلب المعلومة الطبية، والنظر إليها بتجرد عن كل العبارات العاطفية التي من شأنها أن تؤثر على المتلقي غير الخبير بالطب وكيف يُساغ.
  • المسكنات العاطفية: لا يُجدي كذلك إقحام الدين أو الوطنية أو أي نوع من المشاعر التي يظن أصحابها أنهم بذلك يضفون مصداقية على أقوالهم، ويمارسون بها أحيانا نوعا من الإرهاب العاطفي على المتلقي باستعمال المعادلة الساذجة: أنا أتحدث باسم الوطنية أو الدين، وأنت تُخالفني، إذا أنت غير وطني أو تضع الدين محل شك. 

5. كيف السبيل إذا للتبين؟

لا يخفى أن ظهور وسائل التواصل الاجتماعي مثلما أتى بفرص وإمكانيات جديدة لتلقي معلومات حول التوعية الصحية، فإنه فتح الباب على مصراعيه أمام تسيب وتوالد الفتاوى الطبية المشكوك في موثوقيتها.

مسؤولية الاختصاصيين في كل مجال أيضا قائمة، وتكمن في تصدر المشهد، والتواصل مع الناس، وإشاعة المعلومة الصحيحة، والتصدي للتجاوزات والمعلومات الخاطئة.

أخيرا، لا يمكن إعفاء المتلقي من قدر غير بسيط من المسؤولية، فإنه إن كان حريصا على صحته، وجب أن يستفرغ الجهد في التبين، والتثبت، وتمحيص ما يرد عليه من معلومات. وليس هذا المقال إلا محاولة بسيطة لإمداده ببعض الأدوات المساعدة في ذلك.