أثبتت الدراسات الأركيولوجية أن الإنسان استعمل الأعشاب للتداوي منذ 60 ألف سنة على الأقل. استفاد الإنسان بدأً من ملاحظة تعامل الحيوانات مع الأعشاب، ثم كسب تجربة ومعرفة متراكمة عبر الزمن بفعل التجربة والخطأ، لتظهر منظومات متكاملة في حقب وأماكن متفرقة من العالم، الطب الصيني التقليدي، الطب الهندي، الطب التقليدي العربي الإسلامي، وغيرها..

بدأ استخدام الأعشاب بالتوازي مع العلوم الحديثة منذ القرن 19، حيث اكتشف الإنسان مكونات في الأعشاب، فتحت حقبة مزدهرة من الطب المعاصر (المورفين، الأتروبين، الديجيتالين.وغيرها)، وهي أمثلة من مكونات كثيرة غيرت وجه الطب.

فرض الضغط المجتمعي و الوازع الأخلاقي على المجتمعات بشكل تدريجي التفكير في منظومات قانونية لتقنين الأدوية والتأكد من فاعليتها من جهة، وخلوها من أضرار جسيمة محتملة على الإنسان من جهة أخرى. 

في نفس الوقت، أصبح قطاع صناعة الأدوية أحد أكثر القطاعات ذرًا للربح، بعائد سنوي ضخم، و هامش ربح يفوق هامش القطاع البنكي، صناعة السيارات و الصناعات البترولية.

التقنين و الدعم الحكومي:

يتم تقنين الأعشاب الطبية في أوروبا، عبر منحها واحدا من الترخيصات الثلاث التالية: 

أولا: Full application، يعني أن الشركة يلزمها إثبات أن المنتوج فعال وآمن عبر إجراء دراسات علمية تُشبه تلك التي يتم فرضها على الأدوية الكيميائية. 

ثانيا: Well-established medicinal use، يمكن للشركة طرح المنتوج للبيع إذا أثبتت عبر معطيات ومراجع علمية أنه فعال وآمن، واستُعمل لأكثر من 10 سنوات داخل أوروبا.

ثالثا: Traditional use (استعمال تقليدي)، تقدم الشركة في هذه الحالة إثباتات بأن المنفعة راجحة لمنتوجها، وقد استعمل لأكثر من 30 سنة دون أن يؤدي لحالات تسمم، هذه الأعشاب غالبا ما يتم الترخيص لها لكن بجرعات قليلة. 

هذا النظام غير خال من الاختلالات بطبيعة الحال، أبرزها عدم وضوح المعلومة عند عامة الناس، للتفريق بشكل واضح بين المستويات الثلاث من الموثوقية. كما أن النوع الثالث من الترخيصات يفرض على المُنتِج تقليل الجرعة مما يثير تساؤلات حول فعالية المنتجات.

البحث حول الطب البديل:

تتوفر الولايات المتحدة على مركز حكومي خاص بدعم البحوث حول الطب البديل والتداوي بالأعشاب، وهو National Center for Complementary and Integrated Health التابع للمعاهد الوطنية للصحة NIH. بعد تصفحك لموقع هذا المركز سوف يظهر لك جليا أنه يقدم بشكل موثوق معلومات عن الطب البديل، و يوجه الناس لكيفية استخدامه في علاج الأمراض.

تدعم الصين كذلك بشكل كبير كل ما يتعلق بالطب البديل، بل تنهج سياسة “تدويل” الطب الصيني التقليدي عبر تمويل البرامج التكوينية ودعم البحوث.

ماذا عن الطب البديل في المغرب؟!

في المغرب، عدى علم التغذية والحمية الذي يدخل في إطار التكوينات الجامعية كتخصص طبي موازي، فإن قطاع التداوي بالأعشاب Phytotherapy لا يزال يخضع لمشكل سوء الهيكلة، ضعف المراقبة، و هيمنة القطاع الغير مقنن على التوزيع. تخضع إجراءات فتح “معشبة” على سبيل المثال لقانون 1960، الذي يُلزم الراغب في ذلك بالإدلاء بشهادة تكوين (غير متوفرة بالمغرب، وجميع الشهادات تأتي من دول أجنبية) قبل منحه الترخيص من طرف الأمانة العامة للحكومة. يمكن القول إذا أن هذا القطاع يعاني من الإهمال، العلمي والقانوني والجامعي على حد سواء. 

بين الإفراط والتفريط:

يُلمس عند العديد من الأطباء والجمعيات الطبية استخفافهم بمفعول المواد الطبيعية والأعشاب الطبية، ويُستشف ذلك بشكل واضح من خلو إرشاداتهم الطبية من هذا النوع من المواد، ليشمل ذلك حتى المواد الطبيعية التي تتوفر على موثوقية علمية محترمة بخصوص استعمالها الفعال والآمن. و إن كان هذا الارتسام غالبا ما يكون ناتجا عن قناعات شخصية، فيجب التنبيه إلى عوامل موضوعية تجعل عادة الطبيب في موقف دفاعي رافض للطب البديل أهمها: 

  • لا يتوفر الأشخاص والشركات الراغبة في تثمين المواد الطبيعية والأعشاب على الإمكانيات المادية ولا الاهتمام الرسمي لإجراء دراسات كتلك التي تستفيد منها الأدوية الكيميائية. علما أن ميزانية دراسة موثوقة Randomized clinical trial قد تصل إلى 600 ألف دولار.
  • لا يتلقى الطبيب أي تكوين خاص بهذه المواد، أثناء السنوات الطويلة التي يقضيها في كليات الطب، وبالتالي فالجهل بالشيء مدخل لرفضه.
  • لا تقبل المجلات العلمية المرموقة عادة المقالات التي تُعنى بالطب البديل والأعشاب، فيضطر كاتبوها إلى الاكتفاء بالمجلات المغمورة المتخصصة في هذا الميدان.
  • نفسيا، فإن الطبيب قد يحس بشيء من المنافسة غير الشريفة من قبل دعاة الطب البديل، ذوي القاعدة الجماهيرية الواسعة، مما يدفعه لاتخاذ موقف رافض للموضوع جملة وتفصيلا.

على الجانب الآخر، فإن الإفراط في توقع المفعول الإيجابي للمواد الطبيعية البديلة شائع بين الناس، لاعتبارات ثقافية ولقلة الاحتكام إلى تمحيص مصادر المعلومات، مما يتيح المجال خصوصا في حقبة الإعلام المفتوح، لكثير من التجاوزات، وخير دليل على ذلك تناسل برامج فتاوى الأعشاب والخلطات السحرية في الإعلام المهيكل وغير المهيكل.

بين الإفراط والتفريط، فإن المغرب سيستفيد حتما من تظافر الجهود، وإعطاء هذا الميدان حقه من الاهتمام العلمي والقانوني والجامعي. لن يكون ذلك تفضلا عليه، بل لأنه يمنح فرصة حقيقية للمساعدة على علاج الأمراض، خصوصا في بلد تعاني شريحة واسعة من ساكنتها من ضعف الولوجية للمؤسسات الصحية، وعدم القدرة على شراء أدوية، تخضع لمنطق ربح شركات الأدوية أكثر من مصلحة المريض. 

كما أن غنى الغطاء النباتي والتراث الثقافي الحافل في مجال التداوي بالأعشاب، يجب أن يحثنا على نقل هذا الميدان من دهاليز شبكات التوزيع الغير مقننة، وعبث غير المتخصصين على الإعلام المفتوح إلى الجامعات والدراسات المنضبطة بالعلم.